حرية التعبير على فيسبوك: بين الوهم والرقابة الرقمية
![]() |
| حرية التعبير على فيسبوك: بين الوهم والرقابة الرقمية |
منذ أن وُلد فيسبوك بوعد الحرية والانفتاح، بدا وكأنه مساحة لا نهائية للكلمة والرأي. غير أن مرور السنوات كشف وجهًا آخر؛ وجه المنصّة التي تحولت من ميدانٍ للتعبير إلى نظامٍ معقّد يراقب ويقنن ويعاقب تحت ذرائع شتى. فهل ما زال العالم يعيش وهم "حرية التعبير"؟
من الحلم المفتوح إلى خوارزميات التحكم
في بداياته، سمح فيسبوك ببناء مجتمعات رقمية حقيقية تتبادل الأفكار بحرية. لكن تضخّم المنصّة ودخول الإعلانات والسياسة والمال جعل الشركة تبني آليات رقابة صارمة عبر خوارزميات ترصد الكلمات والصور والسياقات. هذه الخوارزميات لا تفهم اللغة كما يفهمها البشر؛ إنها تقرأ الأنماط وتصدر الأحكام الإحصائية، فتسقط منشورات بريئة مع الأخرى المضلّلة في شبكة واحدة من المنع أو التقييد.
الرقابة الناعمة: حين تُخنق الآراء دون حظرها
لم تعد الرقابة اليوم حذفًا مباشرًا فحسب، بل أصبحت "إخفاءً ذكيًا". خفّض مدى الوصول (Shadow Ban) يجعل منشورك شبه غير مرئي بينما تظن أنك ما زلت حرًّا. هذه الآلية تمثل الرقابة الأذكى والأكثر فاعلية، لأنها لا تثير مقاومة علنية. وهنا يكمن الخطر؛ فبدل أن تناقش الأفكار في العلن، تُدفن بصمت داخل خوارزميات لا وجه لها.
حدود الحرية بين السياسة والتجارة
تسعى ميتا إلى موازنة الحرية مع الربحية والاستقرار السياسي. فكلما اقتربت النقاشات من خطوط حساسة مثل الدين أو الانتخابات أو النزاعات، تتدخل الأنظمة تلقائيًا لتقليل الانتشار. تقول الشركة إنها تفعل ذلك لحماية المستخدمين، لكن النتيجة هي إضعاف النقاش العام وتشكيل وعي جماعي مفلتر بحسب معايير تجارية أو سياسية. لقد تحولت المنصّات إلى "حراس البوابة" الجدد للعصر الرقمي.
الخوارزميات كسلطة خفية
ليست المشكلة في القوانين وحدها، بل في من يكتبها ومن ينفذها. لا أحد يعلم كيف تُبرمج خوارزميات فيسبوك، ولا ما هي المعايير الدقيقة التي تحدد ما إذا كان المحتوى مقبولًا. هذه السرية تخلق فجوة ثقة بين المستخدم والمنصة، وتفتح بابًا للتلاعب. فحين تصبح الخوارزمية هي الحكم، تختفي الشفافية ويغيب الحق في الطعن أو التوضيح.
حرية التعبير في مواجهة التضليل
يدّعي فيسبوك أن القيود ضرورية لمحاربة الأخبار الزائفة، وهو تحدٍّ حقيقي في عالم تتدفق فيه المعلومات بسرعة الضوء. لكن المشكلة أن محاربة التضليل تحوّلت أحيانًا إلى تكميم. فقد حُذفت منشورات علمية أو آراء متخصّصين لأنها خالفت السرد السائد. والنتيجة أن "المعلومة الرسمية" أصبحت هي الوحيدة التي يسمح النظام بانتشارها، في حين تختفي الأصوات الناقدة التي تشكّل جزءًا أساسيًا من النقاش العلمي والاجتماعي.
الأثر النفسي والاجتماعي
تخلق الرقابة غير المعلنة شعورًا بالعجز لدى المستخدمين. كثيرون أصبحوا يمارسون "الرقابة الذاتية" خشية أن يُحظر حسابهم أو يُقيّد تفاعلهم. هذا الخوف المستمر يقتل روح الحوار ويحوّل الفضاء الرقمي إلى مكان آمن شكليًا، لكنه فارغ من التنوع الفكري. في المقابل، يرى البعض أن هذه القيود ضرورية لحماية الفئات المستضعفة من خطاب الكراهية، ما يجعل النقاش حول الحدود الأخلاقية للحرية أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.
الذكاء الاصطناعي وصناعة الصمت
مع دخول الذكاء الاصطناعي مرحلة متقدمة، أصبح قادرًا على تحليل النبرة والسياق والعاطفة في النصوص والصور. هذا يعني أن أنظمة المراقبة الرقمية ستزداد دقةً وشمولًا، لكنها ستزداد أيضًا تسلطًا. فحين يعرف النظام ما تفكر فيه قبل أن تكتبه، تصبح الحرية نفسها موضع شك. هنا يتحول المستقبل إلى مرآة تسألنا: هل سنستسلم للراحة التي توفرها الخوارزميات أم نحافظ على ضجيج الحرية؟
نهاية الفضاء العام؟
كان المفترض أن تكون وسائل التواصل هي الميدان العام الجديد، لكنها باتت اليوم تشبه ساحةٍ مغلقة يملك مفاتيحها طرف واحد. القرارات التي تتخذها الشركات التقنية تؤثر في مصير النقاش العالمي أكثر مما تفعل الحكومات أو الصحف. ومع غياب بدائل حقيقية، يجد المستخدم نفسه بين خيارين: البقاء داخل المنظومة والقبول بشروطها، أو العزلة الرقمية التي تعني الاختفاء من المجال العام.
المستقبل: هل يمكن استعادة المعنى الأصلي للحرية؟
الحل ليس في الهروب من المنصات، بل في المطالبة بالشفافية والمساءلة. يجب أن يعرف المستخدمون كيف تعمل الخوارزميات وكيف تُتخذ القرارات. كما يجب على التشريعات الدولية أن تفرض على الشركات الكبرى التوازن بين الأمان وحرية التعبير. فالعالم الذي يكمم الأفواه بحجة الحماية سيفقد في النهاية القدرة على حماية الحقيقة نفسها.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل فيسبوك يمنح حرية التعبير المطلقة؟
لا، المنصة تضع سياسات استخدام تقيد بعض أنواع المحتوى بحجة الأمان، ما يجعل الحرية نسبية وليست مطلقة.
ما معنى الرقابة الناعمة؟
هي تقليل ظهور منشور أو حساب دون حذفه، مما يقلل التفاعل ويجعل المستخدم يظن أن المحتوى غير مهم بينما جرى تقييده عمدًا.
هل يمكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لضبط المحتوى؟
يمكنه المساعدة في كشف المحتوى الضار، لكنه غير قادر على فهم النية أو السياق الثقافي بدقة، ما يؤدي إلى أخطاء في الحذف والمنع.
كيف يمكن للمستخدم حماية نفسه من الرقابة الخفية؟
من خلال تنويع المنصات، والاحتفاظ بنسخ من محتواه، واستخدام أدوات تحليل الوصول لمعرفة ما إذا كان حسابه مقيدًا.
هل ستختفي حرية التعبير في المستقبل الرقمي؟
لن تختفي تمامًا، لكنها ستتخذ أشكالًا جديدة تعتمد على توازن معقّد بين القوانين والخوارزميات ووعي المستخدمين بحقوقهم الرقمية.
المصادر
- The Verge – Meta and the future of content moderation, April 2025
- Business Insider – How Facebook’s algorithms shape public debate, March 2025
- Forbes – Artificial Intelligence and the new censorship, February 2025
- Harvard Kennedy School Report – Digital Speech and Democratic Spaces, 2024
- Reuters Institute – Global Media Freedom in the Social Era, 2025
